/ الفَائِدَةُ : (176) /

05/06/2025



بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / الْمُحَاسَبَةُ وَالْمُدَاقَّةُ على طَبَقَاتٍ / إِنَّ ما ذكره الإِمام الباقر صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « إِنَّما يداقُّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا »(1) بيان لفلسفة التَّشريع الإِسلامي ؛ وأَنَّ الْمُحَاسَبَةَ وَالْمُدَاقَّةَ والجزاء والعقوبةَ إِنَّما تكون بحسب جهة العمد والْاِخْتِيَار لمُرْتَكِب الفعل . والعمد والْاِخْتِيَار إِنَّما يَتَوَلَّدَان من قدرة الفاعل وقدر علمه وعقله . وكُلَّما قلَّتْ قدرته وضعف عقله كُلَّما ساء اِخْتِيَاره . وهذا من البحوث الْمُسْتَجِدَّة في عُلُومِ الْمَعَارِفِ وَالْعَقَائِدِ ، وهو بحثٌ بديعٌ ووسيعُ الذيل ؛ فيشمل إِضافة إلى التَّشريعات السماويَّة التَّشريعات البشريَّة ـ كالجنائيَّة والقضائيَّة والجزائيَّة والتربويَّة ـ ؛ فإِنَّ أَخذ درجات القدرة الْعَقَلِيَّة والْعِلْمِيَّة في المحاسبة أَمْرٌ ضروريٌّ . ومنه تتَّضح : محاسبة الباري (عظمت آلاؤه) لسَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ فإِنَّها لا تُقَاس بمحاسبة مخلوق قَطُّ ؛ ولا يقوم بعبئها أَحدٌ قَطُّ وإِن كان من سائر أَنْبِيَاء أُولي العزم عليهم السلام ؛ لعظمة مُدَاقَّتها ؛ فإِنَّ العقل الذي حباه الله به يفوق عَقُولُ جملة المخلوقات الْعَاقِلَة ؛ وإِن كانت من سائر أَنْبِيَاء أُولي العزم عليهم السلام . وهذا أحد مصاديق كثير من بيانات الوحي ، منها : بيان قوله عَزَّ من قائل : [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ](2) . ثُمَّ إِنَّ محاسبته (تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ) لسائر أَنبيائه عليهم السلام أَعظم بأضعاف لا تحصى من محاسبته (جلَّ ثناؤه) لسائر العباد . وَمحاسبته (جلَّ ذكره) للعلماء في أَيِّ مجال أَعظم بمراتب من محاسبته لعامَّة النَّاس . وَلعلَّ هذا أَحد تفاسير : اولا : بيان جواب سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ فإِنَّه سُئِلَ: « أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً ؟ قال : الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ »(3) . ثانيا : بيان الإِمام الصادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « إن أشد الناس بلاءا الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل »(4) . ومن ثَمَّ ورد عن الإِمام الصادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : أَنَّه حينما ورد نبأ بعض من يؤلهه خرَّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ساجداً مُتَضَرِّعاً لله وهو يجهش بالبكاء بِشِدَّةٍ وضَرَاعَةٍ ، وكَأَنَّمَا ارتكب ذنباً عظيماً ؛ فتَعَجَّبَ الراوي من فعله وقال له : يا مولاي ، ما ضيرك بما يقول السفهاء ؟! فأجابه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : والله لو أَنَّ عيسى ابن مريم دخل في قلبه شيء مما قالته فيه النصارى لمحى الله اسمه من كتاب النبوَّة(4) ، وهذا بيان وبرهان على أَنَّ كُمَّلَ المخلوقات يُحاسبون على الخطرات والميول القلبيَّة والحالات الرُّوحيَّة فضلاً عن غيرها ؛ لوقوعها تحت اِخْتِيَارهم وقدراتهم ، نعم هي خارجة عن اِخْتِيَار وقدرة غيرهم ؛ ومن ثَمَّ لا يُحاسبون عليها. نعم ، من يريد أن يتكامل فينبغي له أَن يُراقِبَ نفسه وهواجسها وميولها ؛ لأنَّ في ذلك : إِمَّا ولاء لله ولرسوله ولأولي الأَمر أَو لغيرهم ، والرَّغبة إِذا لم تكن لله ولرسوله ولأُولي الأَمر فلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ تُشكِّل حاجزاً عن التَّكامل. وإِن شئت قلتَ : إِنَّ الميول والحالة النَّفسيَّة : إِمَّا أَنْ تلي جهة الرَّبِّ ؛ أَو تلي جهة الهوى والشيطان . وهذا هو معنى الولاية ، وهي أَصعب شيء في الوجود. وبالجملة : أَنَّ الْمُدَاقَّةَ الْإِلَهِيَّة في الحساب لا تبقي للعبد رصيداً . وهذا ما تُشير إِلَيْه بيانات الوحي ، منها : 1 ـ بيان قوله تعالى : [وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَاب](5) أَي : شِدَّة التَّدقيق . 2 ـ بيان قوله تقدَّس ذكره : [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ](6) . 3 ـ بيان قوله (جَلَّ وَتَقَدَّسَ) : [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ](7). وبالجملة : لو أَراد سبحانه أَن يُدقِّق في الحساب ما خرجت زكاة وطهارة لأَحَدٍ إِلَّا لسَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ولأَمِير الْمُؤْمِنِينَ وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فالأَولويَّات المخاطب بها سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لا يَتَمَكَّنَ من تَحَمُّل ادائها مخلوق قَطُّ ؛ لأَنَّ فيها مُدَاقَّة في الحساب دقيقة جِدّاً ، بل ورد في بيانات الوحي : أَنَّ المحاسبة التي يُحاسَب بها سائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لا يَتَمَكَّنَ من تَحَمُّلها سائر أَنبياء أُولي العزم فضلاً عن غيرهم ؛ لشِدَّة المُحاسبة والتَّدقيق . إِذنْ : الْمُحَاسَبَةُ وَالْمُدَاقَّةُ على طبقات ، لكن هذا لا يعني أَنَّ المُقرَّرات والقوانين الشَّرعيَّة والمنظومة القانونيَّة مختلفة وعلى طبقات أَيْضاً ، بل القانون واحد ، لكن مداينة المُكلَّفين بهذا القانون الواحد وقدرتهم في الْاِلْتِزَام وتَحَمُّل أَعباء المسؤوليَّة على درجات. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أصول الكافي ، 1 / كتاب العقل والجهل / 11/ ح7 . (2) البقرة : 253 . (3) (4) الكافي ، 2 : 252 / ح 1 . (5) الرعد : 21 . (6) النحل : 61 . (7) النور : 21